أخبار الرعية

عظات قداسة البابا في ا|لأرض المقدسة

عظة قداسة البابا في القداس الإلهي
وادي قدرون
القدس
12 مايو 2009

أيها الأخوة والأخوات الأعزاء في الرب،
"المسيح قام هللويا!" بهذه الكلمات أحييكم بعاطفة كبيرة. أشكر البطريرك فؤاد الطوال على كلمة الترحيب باسمكم، وأعبر أيضا، وقبل أي شيء، عن فرحتي بوجودي هنا للاحتفال بهذه الإفخارستيا معكم، يا كنيسة أورشليم. اجتمعنا هنا عند أقدام جبل الزيتون، حيث صلى ربنا وتألم، وحيث بكى حبا بهذه المدينة ورغبة بأن تعرف "طريق السلام" (راجع لوقا 19،42)، وهنا حيث عاد لأبيه مانحا بركته الأرضية الأخيرة لتلاميذه ولنا.
نعانق اليوم هذه البركة. إنه يهبها لكم بطريقة خاصة، أخوتي وأخواتي الأعزاء المتحدين برابط مستمر مع الرسل الأوائل الذين التقوا الرب القائم في كسر الخبز واختبروا فيض الروح القدس في "الغرفة بالطابق العلوي"، واهتدوا بعظة القديس بطرس وباقي الرسل. أوجه تحياتي أيضا لجميع الحاضرين وبنوع خاص لمؤمني الأرض المقدسة الذين ولأسباب متعددة لم يستطيعوا أن يكونوا معنا اليوم.
وكخليفة القديس بطرس، سرت على خطاه لأعن الرب القائم بينكم وأثبتكم في إيمان آبائكم وألتمس لكم العزاء، عطية الباراقليط. ومن خلال وجودي اليوم أمامكم، أرغب بالاعتراف بالمصاعب والحرمان والألم والمعاناة التي قاساها كثيرون بينكم بسبب تبعات النزاعات التي آلمت هذه الأراضي فضلا عن خبرة التنقل المرة التي عرفتها عائلاتكم والتي ـ لا سمح الله ـ قد تعرفها مجددا. آمل بأن يشكل حضوري علامة أنكم غير منسيين وأن حضوركم الدائم وشهادتكم هما في الواقع ثمينان في عيني الله ومكون هام لمستقبل هذه الأراضي. وبسبب جذوركم العميقة في هذه الأماكن، وثقافتكم المسيحية العريقة والقوية، وثقتكم الدائمة بوعود الله، إنكم يا مسيحيي الأرض المقدسة، مدعوون لتكونوا ليس كمنارة إيمان للكنيسة الجامعة وحسب، إنما أيضا كخميرة تناغم، حكمة وتوازن في حياة مجتمع، كان ويستمر في أن يكون متعدد الإتنيات والأديان.
وفي القراءة الثانية، يدعو بولس الرسول أهل قولسي "ليسعوا إلى الأمور التي في العلى حيث المسيح قد جلس عن يمين الله" (قولسي 3،1). يتردد صدى هذه الكلمات بقوة هنا، عند أقدام بستان الجسمانية، حيث قبل يسوع كأس الألم بطاعة كاملة لمشيئة الآب، وحيث بحسب التقليد جلس عن يمين الآب ليتشفع لنا باستمرار، أعضاء جسده. إن القديس بولس، سفير الرجاء المسيحي، عرف قيمة هذا الرجاء وثمنه في الألم والاضطهاد حبا بالإنجيل، ولم يتردد في قناعته بأن قيامة المسيح كانت بداية الخليقة الجديدة. وكما قال لنا:"فإذا ظهر المسيح الذي هو حياتكم، تظهرون أنتم أيضا عندئذ معه في المجد" (قولسي 3،4)!
إن إرشاد بولس "فاسعوا إلى الأمور التي في العلى" ينبغي أن يتردد صداه على الدوام في قلوبنا. إن كلماته ترشدنا إلى تمام رؤية الإيمان في أورشليم السماوية حيث، وطبقا للنبوءات القديمة، سيكفكف الله كل دمعة تسيل من عيونهم وسيعد مأدبة خلاص لجميع الشعوب (راجع أشعيا 25،6 ـ 8؛ رؤيا 21،2 ـ4).
هذا هو الرجاء، وهذه هي الرؤية التي تدفع جميع الذين يحبون أورشليم الأرضية لرؤيتها كنبوءة ووعد لتلك المصالحة الشاملة والسلام الذي يريده الله للعائلة البشرية كلها. للأسف، وعند أسوار هذه المدينة نفسها، إننا مدعوون لندرك كم أن عالمنا بعيد عن إتمام تلك النبوءة والوعد. في هذه المدينة نفسها حيث انتصرت الحياة على الموت، وفاض الروح كأول ثمرة للخليقة الجديدة، يواصل الرجاء محاربة اليأس والحرمان واللامبالاة، في ما تهدد الأنانية، والنزاع، والانقسام، وثقل الإساءات الماضية السلام الذي هو عطية الله ودعوته. ولهذا السبب، ينبغي على الجماعة المسيحية في هذه المدينة التي رأت قيامة المسيح وفيض الروح، بذل المستطاع للحفاظ على الرجاء الذي يعطيه الإنجيل، آخذة في عين الاعتبار علامة الانتصار النهائي للمسيح على الخطيئة والموت، وشاهدة على قوة الغفران ومبينة طبيعة الكنيسة الأكثر عمقا كعلامة وسر بشرية متصالحة، متجددة وواحدة في المسيح، آدم الجديد.
وإذ نجتمع عند أسوار هذه المدينة، المقدسة لدى أتباع الديانات الثلاث الكبرى، كيف لنا ألا نتجه بفكرنا نحو دعوة القدس الشاملة؟ وهذه الدعوة التي أعلنها الأنبياء تظهر كحدث أكيد وواقع لا رجوع عنه مؤسس على تاريخ هذه المدينة المتشابك وشعبها. إن اليهود، المسلمين والمسيحيين يعتبرون هذه المدينة كوطنهم الروحي، وكم هناك حاجة لجعلها حقا "مدينة السلام" لكل الشعوب، حيث يستطيع الجميع أن يأتوا في زيارة حج بحثا عن الله وللإصغاء لصوته "صوت يتكلم بالسلام" (راجع سفر المزامير 85،8)!
كانت أورشليم على الدوام مدينة يتردد في شوارعها صدى لغات مختلفة وتدوس حجارتها شعوب من كل عرق ولغة وتشكل أسوارها رمزا لعناية الله بالعائلة البشرية كلها. وكعالم صغير في عالمنا المعولم، وإذا شاءت هذه المدينة أن تعيش دعوتها الشاملة فعليها أن تكون مكانا يعلم الشمولية، واحترام الآخرين، والحوار والتفاهم المتبادل، مكانا حيث يتم تخطي الأحكام المسبقة والجهل والخوف الذي يغذيها، بالنزاهة والاستقامة والبحث عن السلام. ولا ينبغي أن يكون بين هذه الأسوار مكان للانغلاق، والتمييز، والعنف والظلم. ويجب على المؤمنين بإله الرحمة ـ يهودا، مسيحيين ومسلمين ـ أن يكونوا أول العاملين لتنمية ثقافة المصالحة والسلام، ولو كانت الميسرة بطيئة وثقل الذكريات الماضية أليما.
أرغب هنا بالإشارة مباشرة إلى الواقع المأساوي ـ الذي هو مصدر قلق دائم لجميع الذين يحبون هذه المدينة وهذه الأرض ـ واقع رحيل عدد كبير من المسيحيين في السنوات الأخيرة. ولو دفعت أسباب مقنعة كثيرين، وخصوصا الشباب، للهجرة، فإن هذا القرار يؤدي لافتقار هذه المدينة ثقافيا وروحيا. وأرغب اليوم بتكرار ما قلته في مناسبات أخرى: هناك مكان للجميع في الأرض المقدسة! وإذ أحث السلطات على احترام ودعم الحضور المسيحي هنا، أرغب في الآن معا بأن أؤكد لكم تضامن ومحبة ومؤازرة كل الكنيسة والكرسي الرسولي.
أيها الأصدقاء الأعزاء، وبالعودة إلى الإنجيل الذي استمعنا إليه، يسرع القديس بطرس والقديس يوحنا إلى القبر الفارغ وقيل إن يوحنا "رأى وآمن" (يوحنا 20،8)، وهنا في الأرض المقدسة، وبأعين الإيمان، إنكم لسعداء إلى جانب الحجاج القادمين من كل أنحاء العالم والذين تغص بهم الكنائس والمزارات، برؤية الأماكن التي تقدست بحضور المسيح، وبخدمته الأرضية، آلامه، موته وقيامته وعطية روحه القدوس. هنا، ومثل القديس توما، منحتم فرصة "لمس" الوقائع التاريخية التي هي في أساس إيماننا بابن الله. وما أتمناه منكم أن تواصلوا يوما فيوم في أن "تروا وتؤمنوا" بعلامات العناية الإلهية ورحمة الله الأكيدة، و"تنصتوا" بإيمان ورجاء متجددين لكلمات الوعظ الرسولي المعزية و"تلمسوا" ينابيع النعمة في الأسرار وتثبتوا في الآخرين التزامهم ببداية جديدة، الحرية النابعة من المغفرة، النور الداخلي والسلام، القادرة على حمل الخلاص حتى إلى الأوضاع البشرية الأكثر ظلمة.
وفي كنيسة القبر المقدس، كرم الحجاج على مدى القرون الحجر الذي يقول عنه التقليد إنه وضع على باب القبر فجر قيامة المسيح. ونعود غالبا إلى هذا القبر الفارغ حيث نؤكد مجددا إيماننا بانتصار الحياة ونرفع الصلاة كيما يزال بقوة النور والحياة اللذين يسطعان منذ فجر الفصح من أورشليم على العالم أجمع، كل "حجر ثقيل" من على باب قلوبنا، يمنعنا من الاستسلام الكامل للإيمان والرجاء ومحبة الله. المسيح قام، هللويا! المسيح قام حقا قام، هللويا!
+ بنديكتوس السادس عشر

عظة قداسة البابا في القداس الالهي
ساحة المهد – بيت لحم
13 مايو 2009

أيها الأخوة والأخوات الأعزاء بالمسيح،
أشكر الله الكلي القدرة لأنه منحني نعمة المجيء إلى بيت لحم، لا لأكرم المكان الذي ولد فيه المسيح وحسب بل لأكون إلى جانبكم أيضا، أيها الأخوة والأخوات بالإيمان في الأراضي الفلسطينية. أعرب عن امتناني للبطريرك فؤاد الطوال على المشاعر التي عبر عنها باسمكم وأحيي بمودة أخوتي الأساقفة وجميع الكهنة والرهبان والراهبات والمؤمنين العلمانيين الذي لا يألون جهدا لتثبيت هذه الكنيسة المحلية في الإيمان والرجاء والمحبة. يتجه قلبي بنوع خاص إلى الحجاج القادمين من غزة الممزقة نتيجة الحرب: أسألكم أن تبلغوا عائلاتكم وجماعاتكم معانقتي الحارة لها وتعبروا عن تعازي على الخسائر والصعاب والآلام التي تكبدتموها. كونوا على ثقة بتضامني تضامني معكم خلال مسيرة إعادة التعمير وبصلواتي كي يرفع الحصار بأسرع وقت.
"لا تخافوا! ها أنا أبشركم بخبر عظيم ... ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص" (لوقا 2، 10 � 11). ما يزال يتردد في هذه المدينة صدى رسالة مجيء المسيح، الذي أعلن في السماوات بأصوات الملائكة، كما يتردد وسط العائلات وفي المنازل والعالم كله. قال الملائكة إنه "فرح عظيم" يعم الشعب بأجمعه (لوقا 2، 10). رسالة الفرح هذه تعلن أن المسيح ابن الله وابن داود ولد "من أجلكم": من أجلك ومن أجلي ومن أجل رجال ونساء كل زمان ومكان. في تدبير الله أصبحت بيت لحم "صغرى مدن يهوذا" (ميخا 5، 1) مكان مجد أبدي: المكان حيث شاء الله في ملء الأزمنة أن يصير إنسانا ليضع حدا لسيطرة الخطيئة والموت ويحمل حياة جديدة ووافرة لعالم أمسى قديما، متعبا، مضطهدا وبدون أمل.
بالنسبة إلى رجال ونساء كل مكان، فإن بيت لحم مرتبطة برسالة الولادة الجديدة والتجدد والنور والحرية. مع ذلك فإن هذا الوعد الرائع يبدو بيننا بعيدا عن أن يتحقق! وتبدو بعيدة مملكة السلام والأمن والعدل والكمال التي تحدث عنها النبي أشعيا كما سمعنا في القراءة الأولى (راجع أشعيا 9، 7) والتي نعلنها بشكل نهائي مع مجيء يسوع المسيح، المسيح والملك!
منذ ولادته كان يسوع ولا يزال حتى اليوم "علامة لسقوط كثيرين وقيام كثيرين آخرين" (لوقا 2، 34). رب الجنود، "يكون منذ القديم، منذ أيام الأزل" (ميخا 5، 2)، كان يريد تدشين مملكته مولودا في هذه المدينة الصغيرة فدخل عالمنا بصمت وبتواضع مغارة، مضجعا في مذود كطفل محتاج. في بيت لحم وسط مختلف أنواع التضاربات، تصرخ هذه الحجارة "البشرى السارة"، رسالة الفداء التي دعيت هذه المدينة قبل غيرها إلى إعلانها على ملء العالم. وفي الواقع وبطريقة تتخطى كل التطلعات والآمال البشرية أظهر الله أمانته لوعوده. ففي ولادة ابنه أعلن مجيء ملكوت المحبة: محبة إلهية تشفي وتسمو بالإنسان، محبة تظهر في ذل وضعف الصليب لكنها تنتصر في القيامة المجيدة لحياة جديدة. أعلن المسيح عن مملكة ليست من هذا العالم، مع ذلك فهي مملكة قادرة على تغييره لأن لديها سلطان تبديل القلوب وإنارة العقول وتقوية الإرادات. إن يسوع إذ اتخذ جسدنا بكل ضعفه وبدله بقوة روحه دعانا لنكون شهودا لانتصاره على الخطيئة والموت. وهذا ما تدعونا إليه رسالة بيت لحم: لنكون شهودا لانتصار محبة الله على البغض والأنانية والخوف والضغينة التي تشل العلاقات الإنسانية وتولد انشقاقات بين الأخوة، الواجب أن يعيشوا بوحدة، ودمارا حيث ينبغي أن يبني البشر، ويأسا حيث يجب أن تتفتح براعم الرجاء!
"لأننا في الرجاء نلنا الخلاص" يقول الرسول بولس (رومة 8، 24) ويؤكد بحس واقعي أن الخليقة "تئن حتى اليوم من مثل أوجاع الولادة"، حتى إذا كنا نحن "الذين لنا باكورة الروح" ننتظر بفارغ الصبر إتمام الفداء (راجع رومة 8، 22 � 24). في القراءة الثانية يستخلص بولس من التجسد عبرة يمكن تطبيقها بشكل خاص على الآلام التي تختبرونها أنتم يا من اختاركم إله في بيت لحم: "نعمة الله ظهرت لتعلمنا أن نمتنع عن الكفر وشهوات هذه الدنيا لنعيش بتعقل وصلاح وتقوى منتظرين اليوم المبارك الذي نرجوه يوم ظهور مجد إلهنا العظيم ومخلصنا يسوع المسيح" (طيطس 2، 11 � 13).
أليست هي الفضائل التي تطلب من رجال ونساء يعيشون في الرجاء؟ في المكانة الأولى الارتداد المستمر للمسيح الذي ينعكس ليس فقط من خلال أعمالنا إنما أيضا عبر طريقة تفكيرنا: شجاعة التخلي عن خطوط أفكار ومبادرات وردود فعل غير مثمرة وعقيمة، ثقافة نمط تفكير سلمي يستند إلى العدالة واحترام حقوق وواجبات الجميع والالتزام في التعاون من أجل الخير المشترك ومن ثم الثبات في الخير وفي رفض الشر. في بيت لحم يطلب من رسل المسيح ثبات خاص: ثبات في الشهادة الأمينة لمجد الله المعلن عنه في ولادة ابنه، البشرى السارة لسلامه الآتي من السماء ليقيم في الأرض.
"لا تخافوا!". هي الرسالة التي يسلمها لكم اليوم خليفة بطرس، مرددا رسالة الملائكة الفصحية والرسالة التي تركها لكم السعيد الذكر البابا يوحنا بولس الثاني في سنة اليوبيل الكبير، يوبيل مولد المسيح. اتكلوا على صلوات وتضامن أخوتكم وأخواتكم في الكنيسة الجامعة واعملوا بمبادرات عملية على تمتين حضوركم وتوفير إمكانات جديدة إلى الراغبين في الرحيل. كونوا جسر حوار وتعاون بناء في صنع ثقافة سلام تتخطى الجمود الحالي للخوف والأعمال العدوانية والحرمان. ابنوا كنائسكم المحلية فتجعلوا منها مختبرات حوار ومسامحة ورجاء وكذلك أيضا مختبرات تضامن ومحبة عملية.
وقبل كل شيء كونوا شهودا لعظمة الحياة، الحياة الجديدة التي وهبنا إياها المسيح القائم من بين الأموات، الحياة القادرة على إنارة وتبديد الأوضاع الإنسانية الأكثر ظلمة ويأسا. إن أرضكم لا تحتاج فقط إلى بنيات اقتصادية وسياسية جديدة، إنما وبشكل أهم ـ بإمكاننا أن نقول ـ إلى بنية تحتية "روحية" قادرة على بلورة طاقات جميع الرجال والنساء ذوي الإرادة الطيبة في خدمة التربية والنمو وتعزيز الخير المشترك. لديكم الموارد الإنسانية لبناء ثقافة السلام والاحترام المتبادل القادرين على ضمان مستقبل أفضل لأبنائكم. أمامكم هذه المهمة النبيلة. لا تخافوا!
إن بازيليك المهد القديمة، التي امتحنها ثقل العصور ورياح التاريخ، تنتصب أمامنا كشاهدة على الإيمان الذي يغلب العالم (راجع 1 يوحنا 5، 4). لا يسع أي شخص يزور بيت لحم ألا يلاحظ أن الباب الذي ندخل من خلاله بيت الرب قد أضحى ضيقا عبر العصور. فلنصل اليوم كيما، وبنعمة الله وبفضل التزامنا، ينفتح أمامنا على مصراعيه الباب المؤدي إلى سر مقام الله بين البشر، باب هيكل شركتنا بمحبته، الباب المؤدي إلى عالم السلام والفرح الدائمين، ولينفتح هذا الباب أمام كل قلب بشري ليجدده ويبدله. وهكذا تواصل بيت لحم ترداد الرسالة الموكلة للرعاة، لنا وللإنسانية: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام للناس أهل رضاه"! آمين.
+ بنديكتوس السادس عشر

 

عظة قداسة البابا في القداس الالهي
جبل القفزة – الناصرة
14مايو 2009


أيها الأخوة والأخوات الأعزاء،
"وليسد قلوبكم سلام المسيح، ذاك السلام الذي إليه دعيتم لتصيروا جسدا واحدا!" (قولسي 15،3). بكلمات بولس الرسول، أحييكم جميعا بعاطفة في الرب! إنني مسرور بمجيئي إلى الناصرة، المكان المبارك بسر البشارة والذي رأى السنوات الخفية من نمو المسيح في الحكمة، القامة والنعمة (راجع لوقا 52،2). أشكر رئيس الأساقفة إلياس شقور على كلمات الترحيب اللطيفة وأعانق بالسلام الأساقفة، الكهنة، الرهبان، الراهبات وجميع المؤمنين في الجليل، الذين وفي تعددية الطقوس والتقاليد، يقدمون علامة لشمولية كنيسة المسيح. أرغب بتوجيه شكر خاص لجميع من ساهموا في جعل هذا الاحتفال ممكنا، لاسيما أولئك الذين شاركوا في تخطيط وبناء هذا المسرح الجديد مع مشهد رائع للمدينة.
هنا، في مدينة يسوع، مريم ويوسف، اجتمعنا لاختتام سنة العائلة التي تحييها الكنيسة في الأرض المقدسة. وكعلامة واعدة للمستقبل، سأبارك الحجر الأساس لمركز دولي من أجل العائلة، سيبنى في الناصرة. لنرفع الصلاة كي ينمي حياة عائلية قوية في المنطقة، ويقدم دعما وعونا للعائلات أينما كان، ويشجعها في رسالتها المتعذر استبدالها في المجتمع.
وأرجو أن تلفت هذه المحطة من حجي انتباه الكنيسة كلها لمدينة الناصرة. نحتاج جميعا، وكما قال هنا البابا بولس السادس، لنعود إلى الناصرة كي نتأمل كل مرة بصمت ومحبة العائلة المقدسة، نموذج كل حياة عائلية مسيحية. هنا، وعلى مثال مريم، يوسف ويسوع، نستطيع أن نقدر أكثر فأكثر قداسة العائلة التي، وفي مخطط الله، ترتكز على الأمانة مدى الحياة لرجل وامرأة، مكرسة بالرباط الزوجي ومنفتحة على عطية الله لحياة جديدة. كم يحتاج رجال ونساء زمننا لاستعادة هذه الحقيقة الجوهرية التي هي في أساس المجتمع، وكم هي هامة شهادة الأزواج في تكوين ضمائر ناضجة وبناء حضارة المحبة!
في القراءة الأولى من سفر يشوع بن سيراخ، تقدم كلمة الرب العائلة كأول مدرسة للحكمة، مدرسة تربي أعضاءها على ممارسة تلك الفضائل التي تقود للسعادة الحقيقية والهناء الدائم. في المخطط الإلهي للعائلة، يحمل حب الزوج والزوجة ثمرة حياة جديدة ويجد تعبيرا يوميا في تضحيات الأهلين لضمان تنشئة متكاملة لأبنائهم، إنسانية وروحية. وينظر إلى كل شخص في العائلة، أكان الطفل الأصغر أم الوالد الأكبر سنا، كشخص بحد ذاته وليس ببساطة كوسيلة لأغراض أخرى. وهنا، نبدأ برؤية الدور الرئيس للعائلة كأول حجر بناء لمجتمع منظم ومضياف. ونتمكن من أن نقدّر، وداخل المجتمع الأوسع، دور الدولة المدعوة لمؤازرة العائلات في رسالتها التربوية وحماية مؤسسة العائلة وحقوقها الفطرية والعمل كي تستطيع كل العائلات أن تعيش وتزدهر بكرامة.
في رسالته إلى أهل قولسي، تحدث بولس الرسول بعفوية عن العائلة عندما حاول إظهار الفضائل التي تبني "الجسد الواحد"، أي الكنيسة. وإننا مدعوون، لأن الله "اختارنا وقدسنا وأحبنا" إلى العيش بانسجام وسلام الواحد مع الآخر من خلال التعبير عن عزة النفس والمسامحة بالمحبة كرابط كمال سام (راجع قولسي 3، 12 ـ 14). وكما في الرباط الزوجي، يتسامى حب الرجل والمرأة بفعل النعمة إلى أن يصبح مقاسمة وتعبيرا لمحبة المسيح والكنيسة، (راجع أفسس 5، 32)، فإن العائلة أيضا المؤسسة على الحب، تدعى لتكون "كنيسة بيتية"، مكان إيمان وصلاة واهتمام عطوف لصالح خير أعضائها الحقيقي والدائم.
إنا إذ نتأمل بهذه الوقائع في مدينة البشارة، يتجه فكرنا نحو مريم "الممتلئة نعمة"، أم العائلة المقدسة وأمنا. تذكرنا الناصرة بواجب إقرار واحترام كرامة ورسالة المرأة الممنوحتين من الله للنساء، وكذلك أيضا بمواهبهن الخاصة. وكأمهات عائلات وقوة عاملة هامة وبفعل الدعوة الخاصة لإتباع الرب في المشورات الإنجيلية، العفة، الفقر والطاعة، فلهن دور أساسي في تكوين "البيئة البشرية" (راجع السنة المائة، 39) حيث العالم وهذه الأرض أيضا بأمس الحاجة إليها: بيئة يتعلم فيها الأطفال أن يحبوا ويقدروا الآخرين ويكونوا مخلصين ويحترموا الجميع، ويمارسوا فضيلتي الرحمة والمغفرة.
ونفكر هنا بالقديس يوسف، الرجل البار الذي وضعه الله سيدا على بيته. من مثال يوسف القوي والأبوي، تعلم يسوع فضائل الرحمة الحية والأمانة للكلمة المعطاة، الكمال، والعمل القاسي. وفي نجار الناصرة، استطاع أن يرى كيف أن السلطة الموضوعة في خدمة المحبة هي أكثر قوة من السلطة التي تحاول السيطرة. كم يحتاج عالمنا لمثال وإرشاد وقوة هدوء بشر أمثال يوسف!
ختاما، ومن خلال التأمل بعائلة الناصرة المقدسة، نرفع نظرنا نحو الطفل يسوع الذي، وفي بيت مريم ويوسف، نما بالحكمة والمعرفة حتى اليوم الذي بدأ فيه رسالته العلنية. وأود هنا التوجه للشباب الحاضرين بنوع خاص. يعلم المجمع الفاتيكاني الثاني أن للأولاد دورا خاصا في تقديس والديهم (راجع فرح ورجاء، 48). أدعوكم للتفكير بذلك وجعل مثل يسوع يقودكم لا لإظهار احترام لوالديكم وحسب إنما لمساعدتهم أيضا على اكتشاف المحبة التي تعطي حياتنا معنى أكمل. وفي عائلة الناصرة المقدسة، كان يسوع من علم مريم ويوسف شيئا عن عظمة محبة الله، أبيه السماوي، الينبوع الأخير لكل حب، فمنه كل أبوة في السماء والأرض (راجع أفسس 3، 14 ـ 15).
أيها الأصدقاء الأعزاء، سألنا الآب في هذا القداس أن "يساعدنا لنعيش مثل العائلة المقدسة، المتحدة في الاحترام والمحبة". نجدد التزامنا في أن نكون خميرة احترام ومحبة في العالم من حولنا. إن جبل القفزة، يذكرنا وكما حصل مع أجيال الحجاج، بأن رسالة الرب كانت في بعض الأحيان مصدر تناقض ونزاع مع المصغين إليها. للأسف، كما يعلم العالم، اختبرت الناصرة توترات في السنوات الأخيرة أضرت بالعلاقات بين الجماعتين المسلمة والمسيحية. أدعو الأشخاص ذوي الإرادة الطيبة وفي كلا الجماعتين إلى تصحيح الضرر الذي حصل، والعمل، وبالأمانة للإيمان المشترك بالله الواحد، أب العائلة البشرية، لبناء الجسور وإيجاد طرق لتعايش سلمي. فلينبذ كل واحد السلطة المدمرة للكراهية والأحكام المسبقة التي تقتل النفس البشرية قبل الجسد!
اسمحوا لي بتوجيه كلمة تقدير لجميع العاملين لحمل محبة الله لأطفال هذه المدينة ولتربية أجيال المستقبل على طرق السلام. أفكر بنوع خاص بجهود الكنائس المحلية، لاسيما في مدارسها والمؤسسات الخيرية، من أجل هدم الجدران ولتكون أرضا خصبة للتلاقي، والحوار، والمصالحة والتضامن. أشجع الكهنة، الرهبان، الراهبات، معلمي التعليم المسيحي والمعلمين الملتزمين إضافة إلى الأهلين وجميع العاملين لخير فتياننا، على المواظبة في الشهادة للإنجيل والثقة بانتصار الخير والحقيقة والاتكال بأن الله سينمي كل مبادرة ترمي إلى نشر ملكوته، ملكوت القداسة، التضامن، العدالة والسلام. وفي الوقت نفسه، أقدر بامتنان تضامن كثير من أخوتنا وأخواتنا في العالم كله تجاه مؤمني الأرض المقدسة، من خلال دعم البرامج والنشاطات القيمة للجمعية الخيرية الكاثوليكية في الشرق الأدنى.
"فليكن لي كما قلت" (لوقا 38،1). فلترشدكم وتساعدكم بصلاتها عذراء البشارة التي فتحت قلبها بشجاعة على سر مخطط الله وأصبحت أما لجميع المؤمنين، ولتنل لكم ولعائلاتكم نعمة فتح الآذان على كلمة الرب القادرة على بنياننا (راجع أعمال الرسل 32،20)، وإلهامنا قرارات شجاعة وإرشاد خطانا على درب السلام!


كلمة قداسة البابا في صلاة الغروب في بازيليك البشارة - الناصرة

أيها الإخوة الأساقفة،
أيها الأب الحارس،
إخوتي وأخواتي بالمسيح،
 
أشعر برهبة وتأثر كبيرين وأنا حاضر معكم في هذا المكان الذي صار فيه كلمة الله جسدا وجاء ليقيم معنا وبيننا. كم يحلو الاجتماع سوية لترنيم صلاة الغروب الكنسية فيما نحن نسبح الله ونحمده على الآيات التي صنعها لأجلنا. أشكر رئيس الأساقفة المطران بولس الصياح على عبارات الترحيب الكريمة وأحيي من خلاله أبناء الطائفة المارونية في الأرض المقدسة. أحيي الكهنة والرهبان والراهبات وأعضاء الحركات الكنسية والعاملين الرعويين الذين وفدوا من الجليل كافة. أثني مرة أخرى على الرعاية الحسنة التي يوفرها رهبان حراسة الأرض المقدسة منذ قرون عدة للأماكن المقدسة كالتي نحن فيها. أوجه تحياتي لبطريرك اللاتين السابق ميشال صباح الذي ساس رعيته وقطيعه لأكثر من عشرين سنة في هذه الأراضي. أحيي مؤمني بطريركية القدس للاتين وغبطة البطريرك الحالي فؤاد الطوال وأبناء طائفة الروم الملكيين الكاثوليك الممثلة بشخص رئيس الأساقفة المطران الياس شكور. وفي هذا المكان عينه حيث ترعرع يسوع حتى بلوغه سن الرشد وتعلم اللغة العبرانية، أحيي المسيحيين الناطقين باللغة العبرية الذين يذكروننا بجذور إيماننا اليهودية.
 
إن ما جرى هنا في الناصرة وبعيدا عن أعين العالم، كان عملا لله فريدا وتدخلا قديرا في التاريخ فمن خلاله حبل بطفل ليحمل الخلاص للعالم أجمع. ما تزال آية التجسد تواصل تحديها لنا كي تفتح عقلنا على إمكانيات لا حد لها لسلطان الله الذي يبدل ويغير، ولمحبته لنا، ورغبته في الشركة معنا. في هذا المكان، صار ابن الله الأزلي بشرا ومكننا نحن إخوته وأخواته أن نتقاسم بنوته الإلهية. تبدل هذا الحب الذي أخلى ذاته ليرفعنا ويجعلنا نقاسم حياة الله ذاته (راجع فيليبي2: 6-11).
 
إن الروح الذي حل في مريم (لوقا 1: 35) هو عينه الروح الذي رفرف على المياه في فجر الخلق (راجع تكوين 1: 2) ويذكرنا هذا أن التجسد كان عمل خلق جديدا. حينما حبل بربنا يسوع المسيح بواسطة الروح القدس في حشا مريم البتول، اتحد الله ببشريتنا المخلوقة وأقام معنا علاقة دائمة وجديدة ودشن الخليقة. يؤكد نص البشارة لطف الله الفائق (راجع الأم جوليان من نوريتش، إيحاءات 77-79). فهو لا يفرض ذاته ولا يحدد دور مريم في مخططه من أجل - الجديدة خلاصنا، بل يبتغي رضاها قبل كل شيء. في بدء عملية الخلق، لم يسأل الله رضى أي من خلائقه، ولكنه يطلبه من خليقته الجديدة. تمثل مريم البشرية برمتها. وهي تتكلم باسمنا جميعا حين تجيب لدعوة الملاك. يصف القديس برنردس كيف أن الطغمات السماوية كلها تأهبت قلقة بانتظار أن تتفوه مريم بكلمة نعم التي من خلالها تمت الاتحاد الزوجي بين الله والبشرية. وركزت أجواق الملائكة انتباهها على هذه اللحظة التي فيها جرى حوار شق الطريق أمام فصل جديد ونهائي من تاريخ العالم، إذ قالت: "فليكن لي بحسب قولك"، وكلمة الله صار بشرا.
 
يمنحنا التأمل بذلك السر السعيد رجاء وطيدا في أن الله لن ينفك من توجيه تاريخنا ويفعل بسلطانه المبدع لتحقيق الأهداف التي قد تبدو للعقل البشري مستحيلة. وهذا ما يتحدانا كي ننفتح على عمل الروح القدس الخالق المحوّل، الذي يجددنا ويجعلنا شيئا واحدا معه ويملأنا بحياته. كما أنه يدعونا، بلطفه العذب، كي نوسع له مكانا فيسكن فينا ونقبل كلمة الله في قلوبنا لنتمكن من التجاوب معه بمحبة والذهاب بمحبة الواحد نحو الآخر.
 
يشكل المسيحيون في دولة إسرائيل وفي الأراضي الفلسطينية أقلية السكان. قد يبدو لكم في بعض الأحيان أن صوتكم لا أهمية له. كثيرون من أصدقائكم المسيحيين هاجروا أملا بوجود أمن أوفر وتطلعات أفضل. إن وضعكم يعيد إلى الأذهان صورة مريم الفتاة العذراء التي عاشت حياة مغمورة في الناصرة يكفيها القليل من الثروة والسمعة لمعيشتها اليومية. نردد كلمات مريم في نشيد التسبيح الكبير تعظم نفسي الرب، لقد نظر الله إلى أمته الوضيعة، وأشبع الجياع من الخيرات. لنغرف قوة من نشيد مريم الذي سنرنمه بعد قليل بالاتحاد مع الكنيسة الجامعة في العالم كله! لا تخافوا من أن تكونوا شهودا للمسيح ثابتين في أرضكم هنا التي قدسها بحضوره! على مثال مريم، عليكم أن تلعبوا دورا بارزا في مخطط الله الخلاصي وأنتم تحملون المسيح إلى العالم فتشهدون له وتنشرون رسالته، رسالة السلام والوحدة. ويجب بالتالي أن تكونوا متحدين فيما بينكم بشكل يسمح للكنيسة في الأرض المقدسة بأن تكون "العلامة والأداة للوحدة الوثيقة في الله ووحدة الجنس البشري" (دستور عقائدي في الكنيسة، 1). إن وحدتكم في الإيمان والرجاء والمحبة هي ثمرة الروح القدس الساكن فيكم الذي يجعلكم قادرين أن تكونوا أدوات فاعلة لسلام الله، متعاونين فيما بينكم على بناء مصالحة أصلية بين الشعوب المعترفة بأن إبراهيم أبو المؤمنين. ومثلما هتفت مريم فرحة في نشيد تعظيمها فإن الله يذكر رحمته "من رحمة لإبراهيم وذريته إلى الأبد" (لوقا 1: 54-55).
 
أيها الأصدقاء بالمسيح، آونوا على ثقة بأني سأذكركم على الدوام في صلاتي، وأطلب منكم أن تفعلوا الأمر عينه من أجلي. فلنتوجه إلى أبينا السماوي، الذي نظر في هذا المكان إلى تواضع أمته، منشدين التسبيح والحمد بالاتحاد مع الطوباوية مريم العذراء وطغمات الملائكة والقديسين ومع الكنيسة المنتشرة في كل أرجاء المعمورة.


البابا بنديكتس السادس عشر
الناصرة، في 14 أيار 2009

 

 

كيفية الوصول

إتصل بنا

الناصرة، النمساوي شارع 720 - صندوق بريد 125

+972-(0)4-6123456

+972-(0)4-6123457