رسالة غبطة البطريرك فؤاد الطوال في الأعياد الفصحية المجيدة 2009
"إِنَّ الرَّبَّ قَد قَامَ حَقَّا، وتَرَاءَى لسَمعَان!"
أيها الأبناء المباركون والإخوة المؤمنون،
نحن في هذه الأيام واقفون على عتبة الأسبوع المقدّس، وهو الأسبوع العظيم من حياة يسوع، وقمّة السنة الليتورجية كلها. في هذا الأسبوع المبارك، يعطينا الله النعمة كي نحيي أحداث الخلاص، ونعبر مع يسوع من الموت إلى الحياة، ونخلع عنا الإنسان القديم، ونلبس الإنسان الجديد. في هذا الأسبوع نرى ذواتنا وحياتنا في كل ما نرى من الأشخاص، وما نشاهد من الأحداث، ونتخذ مما نرى دروسا وعبر، نذكرها بالحب، ونحفظها بالإيمان.
لكن لا ينبغي أن نخادع أنفسنا. فالنصوص الانجيلية لا تروي علينا آلام المسيح وموته وقيامته على أنها حوادث تاريخية ماضية، نستذكرها عاما بعد عام، ونحن بعيدون عن المأساة التي فيها. لسنا بعيدين عن المأساة، ولا المأساة تدور خارج ساحاتنا. إنما المأساة تدور في قلوبنا، وتحتوي حياتنا! ونحن نشترك في سر الخلاص. وسر الخلاص يتمّ فينا!
نحن في هذه الأيام الفصحية العامرة نرانا في كل شخص ممن شهدوا مأساة المسيح. نرانا في كل حدث من أحداث حياته المباركة. نرانا في يسوع، ونرى يسوع فينا. نعيش آلامه كل يوم، جوعا وعطشا وتعبا وحرمانا. نرانا في بطرس، صاحب الخلق العظيم، والحب الكريم. بطرس الجاهز دائما للغضب، والسريع دائما إلى الندامة والرجوع. نرانا في يهوذا وبيلاطس وقيافا. ونحن في سرنا، وقد نكون فوقهم خيانة ومكرا ونفاقا. نرانا في كل كاتب وفريسي، وفي هذه الجماهير الحاشدة، فنهتف معها ليسوع أحيانا بالنصر والغلبة، وأحيانا ننادي بقتله بغير رحمة. ونرانا أحيانا في العذراء المباركة الصابرة على الأذى والطغيان، الواقفة بالقرب من يسوع، حين تركه الآخرون، تصلي إلى الله صلاتها، وتسلم إليه ذاتاها ومأساتها. وأحيانا نرانا في الجنود والجلادين، الذين يكللون الرب بالأشواك ساخرين، ويلقون عليه أرجوانا، ويسومنه العذاب ألوانا، وينادونه ملكا كاذبين. وأحيانا نرانا في صاحبة المنديل العجيب فيرونيكا، وسائر النسوة القديسات، اللواتي يبكين على يسوع، ويخففن بالدموع عذابه. ونرانا أحيانا في سمعان القيريني، ويوسف الرامي، ولص اليمين الذي اختلس من الناس أموالهم، واختلس من يسوع في آخر المطاف فردوس النعيم.
نرانا في كل هؤلاء الأشخاص وفي كل هذه الأحداث، التي تدور في داخلنا وتبدل مواقفنا صدقا أو نفاقا. لكن الذي يلمسنا من داخل القلب والضمير والوجدان، ويحولنا إلى المسيح، إنما هو المسيح. فلا ينبغي أن نحول عن المسيح أنظارنا، طيلة هذا الأسبوع العظيم، برجاء أن "نعرفه، ونعرف قوة قيامته، والمشاركة في آلامه، فنتمثل به في موته، لعلّنا نبلغ القيامة من بين الاموات" (فيليبي 3: 10-11).
تلك مأساة لم يشهد لها التاريخ مثيلا. ونحن نستذكرها بالحب، ونحياها بالتوبة. وقد جرت وقائعها في هذه المدينة المقدسة، أورشليم. وشهدها من الناس كثيرون. إنها مأساة المعلم الحبيب، الذي عاشها بالحب والسخاء، بديلا عن كل الخاطئين الأشقياء. لكن المأساة التي قد تدور في داخلنا، ومن أركانها الكفر بالحب، والكفر بالرحمة، قد تكون على الرب أشد هولا وألماً. ويطيب لنا أن نستعرض وإياكم مسيرة الحب في هذه الأيام الفصحية المباركة، وأن نرافق يسوع بالروح إلى بيت فاجيء وأورشليم والعلية وجبل الزيتون والجلجلة والقبر الذي يشهد فراغه الأكيد بقيامته المجيدة.
دعونا نتبع يسوع في هذا الأسبوع، ونصعد معه إلى أورشليم، ونحن نحمل معه صليب همومنا وذنوبنا ونشاركه المصير في الموت والقيامة.
نحن في أحد النخيل، وهو المعروف عندنا بأحد الشعانين. المدينة المقدسة في فرح وعيد. فالرب قادم إليها، والناس خرجوا للقائه متحمسين. نحن أيضا خرجنا، واختلطنا بأفواج الحجاج القادمين من كل مكان. كنا جزءاً من هذه الجماهير. وكنا شركاء الناس في الهتاف للمسيح, وقد فرشنا له القلوب بالحب والإيمان، قبل أن نفرش له الدروب بالورد والريحان، وهتفنا مع الناس هتاف الحب والتأييد: "قام فينا نبي عظيم وافتقد الله شعبه! هوشعنا لابن داود! مبارك الآتي باسم الرب"! سرور غامر. وعيد قائم. والحمد والشكران على كل لسان، للمسيح الذي صنع المعجزات فينا، ومن حولنا، وكان معلما قديرا ملهما، ورسولا من الله، في يديه سلطان كل شيء. ونحن نتبعه بفخر، ونحييه باعتزاز. وننادي به ملكا عجيبا، وسيدا حبيبا، نعطيه ذواتنا بلا حساب، وحياتنا بلا رجوع.
ولكن هل نرى حقا أن يسوع هو المسيح، مخلص الجنس البشري، وأنه فوق كل معلم ورسول ونبي، قوة وشأنا وسلطانا؟ وما موقع كلمته من قلوبنا؟ وما مدى رسوخ حبه فينا؟ وهل نراه كما يراه الآخرون، نبيا مقتدرا على القول والعمل؟ أم سحره يبهرنا، وسره يأسرنا، وحبه يغذينا؟ وهل الهتاف للمسيح على أفواهنا طويل المدى، وسلطانه علينا ليس له زوال؟
يوم آخر سره من نوع آخر: هو خميس الأسرار. وهو يوم "أعدت فيه الحكمة مائدتها، ومزجت خمرها". ونحن اليوم مع التلاميذ حول السيد المسيح، في عشائه الاخير وفصحه السعيد، تتجاذبنا عوامل كثيرة من الحزن والكآبة، والغبطة والسرور: أما الحزن، فلأن الرب يموت على الصليب بعد حين؛ وأما السرور، فلأن الرب يقيم لنا، من جسده ودمه، مائدة تكون لنا عيد فصح أبدي.
ظلام وصمت وهيبة وسكينة وهدوء. ونحن خائفون، لا ندرك مما يدور أمامنا شيئا. كلمات يسوع تبدو غموضا، وحركاته ألغازا: "خذوا كلوا: هذا هو جسدي. خذوا اشربوا: هذا هو دمي". وقد حمله على هذه المعجزة حب لا يقوى عليه أحد سواه. فقد تحول إلينا، لكي نتحول إليه، في معجزة مذهلة. يسوع يلقي بإرشاداته وتوصياته. لكننا نتساءل: لماذا كان عليه أن يموت، وقد وهب الحياة للذين في القبور؟ وهل سيتركنا إلى غير رجعة؟ "يا رب إلى أين تذهب؟ - إلى حيث أنا ذاهب لا تستطيع الآن أن تتبعني" (يو 13: 36).
ثم يدور يسوع على التلاميذ، ويغسل أرجلهم. وما من أحد من الناس، ولا يوحنا، كان أهلا لأن يحل سير نعليه. ويحتج بطرس مستنكرا. لكنه، إن لم يقبل بما صنع يسوع، فلن يكون له معه من نصيب. وبطرس المسكين لا يستطيع أن يوفق بين ما رأى في بيت فاجىء، من عظمة وجلال، وما يراه الآن من بساطة واتضاع. ولا يعلم أن هذا الذي سيطر على مشاعر الناس هناك، إنما جاء ليخدم الناس، ويبذل حياته عن الكثيرين.
ويخرج يسوع إلى بستان الزيتون. ويتولاه هناك حزن ونزاع مرير. عيون التلاميذ ثقيلة، وقلوبهم غليظة: فلم يستطيعوا أن يسهروا مع يسوع ساعة واحدة. وتركوه في البستان وحيدا أعزل، لا سند من رفيق، ولا عزاء من حبيب.
وإذا بعصابة مسلحة يقودها يهوذا. وبودنا لو صرخنا في وجهه: "أيها الخائن الكبير!" لكننا لا نجرؤ. فنحن أحيانا فوق يهوذا خيانة وجبنا، ونفاقا. ويسوع، على انذهالنا الكبير يدعوه "صاحبا وصديقا"!، ويهرب من ساحة الشهادة والحضور كل التلاميذ. يهربون لقلة حبهم. يهربون لقلة رسوخهم. وقد يأخذنا حيالهم الحماس والغرور، ونعلن كما أعلن بطرس: "لو عثروا بأجمعهم فأنا لن أعثر!" (مرقس 14: 29). ولا نستبعد عنا أن ننكر يسوع قبل صياح الديك مرارا، وبعد صياح الديك مرارا. وعلى خلاف بطرس، قد لا نعرف إلى الدموع سبيلا، ولا إلى التوبة والرجوع طريقا! يا رب، اغفر لنا بؤسنا! ولا تقم علينا خطيئة أو عذابا!
ويدخل يسوع في مرحلة جديدة. ويمضي في السجن ليلة طويلة، وحيدا أعزل، لا سند من رفيق، ولا عزاء من صديق. يذيبه الحزن والعذاب، وهو يردد في نفسه: "جعلتني في الجب الأسفل، في أعماق الظلمات، وليس لي سوى الظلام أنيس!" (مز 88: 7، 19). في الغداة، يقودونه إلى محكمة بيلاطوس، على اعتباره مجرما، هو البريء القدوس... صدر عليه حكم الظالمين، وهو ديان العالمين. أدين زورا وبهتانا، وما أدان في حياته أحدا. جلدوه ظلما، وهو الذي كان يداعب الأطفال رقة ولينا. ويضع يديه على البرص فيطهرون، وعلى المرضى فيبرأون. حكموا بالموت على واهب الحياة. أصحاب الذنوب الكثيرة يحكمون على الذي لا يعرف الذنوب. عميان البصر والبصيرة يحكمون على معيد البصر إلى الذين فقدوا الرؤية والنور.
وها هو يسوع، الذي هتفنا له قبل أيام هوشعنا لأبن دأود، يخرج وفي يديه سلاسل الحديد، وعلى منكبيه صليب بحجم العوالم والأزمان. يسير في شوارع القدس الضيقة، صعودا إلى الجلجلة. ونحن نتابع هذا المشهد الحزين. ولكن من بعيد، كي لا يلحظ حضورنا أحد. نخاف أن نتألم. نخاف أن نموت ونكون له شهودا.
صياح الجنود، وصهيل الخيول، وبكاء النساء، وضجيج العابرين، وكبوات يسوع: كل ذلك يزيد من ثقل الصليب، ويزيد في عذاب حامله. يسوع، الذي رأيناه على جبل طابور، في النور والبهاء، نراه اليوم في الذل والهوان. مشهد مريع، تذوب له القلوب حسرة وعذابا. يذوق عذاب الاستشهاد راضيا، هو الذي اجتاز ديارنا يصنع مع الجميع خيرا. كيف أن هذا المعلم العظيم المقتدر رضي أن يظهر أمام الناس عاجزا، وأن يسوموه الخسف والعذاب وهو صامت، لا يفتح فاه، وهو الذي ملأ الأكوان بالعظائم والمعجزات. ويعيرونه أنه خلص غيره ولا يستطيع أن يخلص نفسه (متّى 27: 42). ويسألونه أن ينزل عن الصليب. لكنه لم ينزل. وكان قادرا على النزول. لم ينزل لأن معجزة البقاء أعظم عنده من معجزة النزول. وبقاؤه على الصليب سر لا يدركه إلا المؤمنون.
صاح يسوع بصوت عظيم: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني" (متى 27: 46). ولفظ الروح. واعتقد أعداؤه أنهم قتلوه إلى الأبد. وما كانوا يعلمون أن الحب لا يموت، ولا تقتله حراب المجرمين. فالمسيح أقوى من الموت، وأبقى من الوجود. ولا يكون للموت عليه من سلطان.
مات يسوع. وانطفأت الشمس إيذانا بموته. ظلام كثيف. فراغ مخيف. ذهبت الآمال. وضاعت الطموحات. سكون رهيب وصمت. ونحن مع التلاميذ نجتر الحزن والفشل. ويعذبنا الشعور بالذنب، والإحساس بالخجل. لكننا نقتبس عن العذراء المعذبة حبها وصمتها، وهدوءها واتزانها، وصبرها وصلاتها. ونستلهم إيمانها على غير رؤية، ورجاءها على غير رجاء. إنه عندها سبت النور. والنور يبدد الظلام. لكن الظلام لا يزال مخيما، والأحزان قائمة. ومريم وحدها عند الصليب تقول للعابرين: "لا تخافوا: فالنور قادم، والحب لا يموت!".
وطلعت على الناس أنوار الأحد المجيد، ونسمات النبأ السعيد. "وعند فجر يوم الأحد جاءت النسوة إلى القبر وهن يحملن الطيب الذي أعددنه. فوجدن الحجر قد دحرج عن القبر. فدخلن، فلم يجدن جثمان الرب يسوع، فحضرهن رجلان قالا: "لماذا تبحثن عن الحي بين الأموات؟ إنه ليس هنا، بل قام!" (لوقا 24: 1-6).
كلام حائر بين التصديق والتكذيب. لكنه أقرب إلى التصديق منه إلى التكذيب. وأشاعوا خبر السرقة. لكن خبر السرقة الذي لفقه اليهود هو، الأجدر بالتكذيب. قالوا: "سرق جثمانه التلاميذ، ونحن نائمون". إنما النائم لا يعرف هوية السارقين. ومن لم يكن نائما لا يدع للسارقين إلى الجثمان سبيلا. لذلك فالإشاعة كاذبة. والخبر قائم. والكلام صحيح. والناس في حيرة وذهول. نسرع إلى القبر مع بطرس ويوحنا، وقلوبنا تخفق خوفا وفرحا. الحجر قد دحرج. والقبر فارغ تماما، إلا من الأنوار والأكفان. ويخطر عندها ببالنا قول يسوع: "إن ابن اإنسان سيسلم إلى أيدي الناس فيقتلونه، وفي اليوم الثالث يقوم" (متى 17: 22).
ونذهب مع التلاميذ إلى الجليل، على عجل. نذهب إلى الجبل الذي أشار إليه يسوع. انه ينتظرنا في الجليل. والجليل هو الكنيسة. والكنيسة بيتنا. هناك حيث نتمّ خدمتنا وعملنا اليومي. الجليل هو كل مكان يرسلنا اليه الرب، كي نشهد بفرح لموته وقيامته. يسوع حاضر على الجبل، حضور حب وحياة. نراه ويرانا. انه هو! وهو غيره. ونحن نحن. ونحن غيرنا. لكننا، ونحن اليوم، وإن لم نر له قبرا فارغا، ولم نلمس له جرحا داميا، نخر بين يديه، ونقول في خجل كبير: "ربي وإلهي". ولقد علمنا يقينا أنه بسلطانه الذاتي المطلق، قد بنى الهيكل الذي نقضوه. وفك أختام القبر الذي حرسوه! وقام من بين الأموات مجيدا مظفرا!
انه عيد القيامة. إنه عيد الحب. إنه عيد الحياة. وصاحب العيد يخاطب الناس من خارج القبر والأكفان: "لا تخافوا. فالحب لا يحتويه العذاب، ولا تقتله الحراب، ولا يكون للموت عليه من سلطان. لا تبحثوا عن الحي بين الأموات، ولا عن الحب بين الأحقاد. لا تبقوا على قبوركم حجرا، ولا على صدوركم كفنا. وهاءنذا معكم طوال الأيام إلى نهاية العالم!" (متى 28: 20).
ايها الأبناء المباركون، والإخوة المؤمنون، هذه رسالتي إليكم في فصح المسيح الذي نقيمه ونحياه. وقد حملتها ما استطعت من حبي لكم وإيماني بحبكم. فتذكروها واذكروني بالصلاة.
وكل عام وأنتم بخير ونعمة وسلام!